الاثنين، 5 مارس 2012

لا تستسلم أبداً


     من أسوأ الأشياء التي يمكن أن تحدث لأي منا أن يتحول إلى شخص " سريع الاستسلام " ، فلنكن كالنملة تصعد الشجرة مئة مرة وتسقط ثم تعود صاعدة حتى تصل فلا تكل ولا تمل .
     وعندما يحيط التشاؤم بالناس ، ويقتنعون بأنهم ضحايا ظروف لا يتحكمون فيها ، يبدؤون في جذب الآخرين معهم ويرفضون اقتراحاتهم دون تقديم اقتراحات بديلة .
     ولنتأمل أعظم مصيبة حلّت بالأمة الإسلامية وهي موته صلى الله عليه و سلم ، فلم ينزل بالمسلمين ولن ينزل بهم مصيبة أشدُّ عليهم من فقدهم للنبي صلى الله عليه و سلم فقد كانوا يَجدون فيه الأب الرحيم والحاكم العادل والقدوة الفاضلة ، يُخالطهم ويُحبهم ويحبونه ، يحل لهم مَشاكلهم ويواسي مَنكوبهم ويُحسن إليهم جميعاً. يقول النبي صلى الله عليه و سلم : (( فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة أشدَّ عليه من مصيبتي )) (أخرجه ابن ماجه في سننه ، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/267)  قال القـرطبــي – رحمه الله – : (قال أبو عمر : وصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم ؛ لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة) ، يقول ابن رجب –  رحمه الله تعالى – : ( ولما توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم اضطرب المسلون فمنهم من دُهِش فَخُوْلِط ، ومنهم من أُقعد فلم يطق القيام ، ومنهم من أنكر موته بالكلية ).
     وقد واجه الصحابة رضوان الله عليهم هذا المصاب الجلل وعايشوه وذاقوا مرارته وغصته ، ولكن هذا المصاب لم يثنهم عن نشر الدين والدعوة إليه ؛ لأن الدعوة لا ترتبط بالأشخاص بل هي دين قائم ، يذهب الأشخاص ويقيض الله لهذا الدين من يحمله جيلاً بعد جيل والله سبحانه وتعالى يقول { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(سورة آل عمران:144).
     يقول القرطبي – رحمه الله –: (فأعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في قومها أبداً ، وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل وإن فَقَدوا الرسول بموت أو قتل..  فهذه الآية من تتمة العتاب على المنهزمين أي لم يكن لهم الانهزام وإن قُتِلَ محمدٌ ، والنبوة لا تدرأ بالموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء).

       وأن الله سبحانه وتعالى وعد على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم أن يبلّغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار – ووعده حق – حيث قال صلى الله عليه و سلم: (( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبرإلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عــزاً يعــزّ الله به الإسلام أو ذلاً يــذلّ الله بــه الكفر )) (أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 103)، وقال عنه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (6 /14) : ( رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح)، وقال الألباني : على شرط مسلم وله شاهد على شرط مسلم أيضا ً[  تحذير الساجد ، ص (158)]
     لقد كان سيد التابعين عطاء بن أبي رباح أسودَ ، أعورَ ، أفطسَ ، أشلَّ ، أعرج ، ثم عمي بعد ذلك ، وقال عنه إبراهيم الحربي : كان عطاء عبدا أسود لامرأة من أهل مكة وكان أنفه كأنه باقلاء .. ستة عيوب كانت في عطاء ، فما نظنه قد فعل بها ؟ هل تكسرت عزائمه؟ هل بكى وهو يائس منتظراً موته للخلاص من الدنيا والخلاص من تهكمات الناس وسخريتهم ؟ هل قال عطاء لنفسه : عبد مملوك سأظل هكذا إلى الأبد ، أنا أسود وأعور وأشل و.. لن يتقبلني أحد؟!
     لقد كان لعطاء أذنان تسمعان ، ورجلان تمشيان ، كان لعطاء لسان يتكلم ، ويدًا تكتب وعقل يفكر ويحفظ.. هذا ما وجده عطاء في نفسه ، كان ينظر بعين المتفائل الراضي الذي يمتلك الكثير من النعم .. لقد كان يعلم أن التغيير يبدأ من الداخل .
     صاح المنادي في زمن بني أمية في مكة أيام الحج : لا يُفْتِ الناسَ إلا عطاء . وقال عنه الإمام أبو حنيفة : ما رأيت أفضل من عطاء. وقال الإمام إبراهيم الحربي : جاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين هو وابناه  إلى عطاء  ، فجلسوا إليه وهو يصلي ، فلما صلى التفت إليهم ، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج ، وقد حول قفاه إليهم ، ثم قال سليمان لبنيه : قوما ، فقاما .. فقال : يا بني لا تَنِيا في طلب العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود .
     لقد أصبح عطاء بن أبي رباح عالم مكة في زمنه .. رسم صورة ذهنية متفائلة مشرقة عن نفسه وواقعه ، فكان له ما رأى وتوقع.
     فلم يستسلم عطاء لهذه الظروف ، ولم تمنعه من طلب العلم والتفقه فيه .
     ولنتأمل سيرة النجاح رغم الصمم ! فقد دخل الرافعي في نحو الثانية عشرة من عمره ، فأتم الدراسة الابتدائية ، ولكنه لم يتجاوزها ، إذ أصيب بمرض شديد لم يتركه إلا بعد أن أثر في أعصاب سمعه ، فأخذ سمعه يضعف ويثقل حتى أصبح أصم وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره ، فلم يعد يصله من أحاديث الناس شيء .
      انكب الرافعي على الدروس والمطالعة ، وحصل على عمل  فعُهد إليه بالكتابة في بعض المحاكم الشرعية ، واستقر أخيراً في محكمة طنطا ، يتولى الكتابة فيها إلى يومه الأخير .
     ولم يساعده الصمم على الاختلاط الكثير  بالناس، ولكنه كان حسن العشرة دقيقاً في أعماله ، كما عرف فيه  تدينه وغيرته على التقاليد الموروثة عن السلف .
     ترك الرافعي رغم حياته القصيرة نسبياً تراثاً أدبياً ، فقد خلف ديوانين في الشعر إضافة إلى كتب أدبية عديدة وقصائد عديدة متفرقة، وقد شرح في (وحي قلم) النكبات التي تغشى اليائس فيعتقد أن بها نهايته وربما كان في الحقيقة بين زواياها انبلاج الأمل فيقول : (ما أشبه النكبة بالبيضة ، تُحسب سجنا لما فيها من سائل ، وهي تحوطه وتربيه وتعينه على تمامه ، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة والرضا إلى غاية ، ثم تفقس البيضة ، فيخرج خلقاً آخر ، وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته ، عمله أن يتكون فيها ، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل ، فيخرج إلى عالمه كاملاً ).
     وهذا لويس برايل أصيب بالعمى في سن الثالثة ورغم ذلك أصبح فيما بعد مدرساً في باريس ، وقام بوضع أسلوب الكتابة الشهير للمكفوفين والذي سمِّي باسمه .
     فهكذا هم المتفائلون يحولون أي عقبة في طريقهم إلى تحدٍّ يرسمون به قصة نجاح.
     في بعض الأحيان ، وبمجرد أن تقابلنا مشكلة كبيرة ، فإننا نهرب منها ونبحث عن طريق أسهل وأن نكف عن المحاولة ، وهذا سيحولنا إلى أشخاص تعساء لم يحققوا الكثير في حياتهم .
     يذكر لنا صاحب كتاب : "خطوات بسيطة : تسعة أشياء يمكن أن تفعلها لتعيش حياة رائعة " موقفاً مع نملة سوداء وحيدة يقول : (كانت هذه الحشرة الصغيرة تسير أمام قدمي ، وأرجلها الصغيرة تتحرك تباعاً . ولقد أدركت حينها أنني لم اشهد نملة مطلقاً قبل هذه اللحظة ، ولكنني تذكرت على الفور الصفات التي تشتهر بها النملة من الحكمة وسعة الحيلة .
لقد اعتقدت أنه سيكون من الممتع اختبار سعة الحيلة لدى هذا المخلوق الصغير ، لذا فقد صنعت تلاً من الرمال في طريق هذه النملة لأرى كيف ستتمكن من اجتيازه . وأظن أنه كان بمثابة جبل بالنسبة لهذه النملة . إلا أنها استمرت في السير وتسلق هذا التل دون توقف ، حتى بلغت الذروة ، وهبطت من الناحية الأخرى .
     بعد ذلك ، قمت بعمل حفرة صغيرة لتشكل وادياً في مسارها ، فاستمرت في سيرها داخل هذه الحفرة ثم خرجت منها دون أن تتوقف . ثم وضعت حجراً معقول الحجم في مسار هذه النملة ، فحاولت أن تتسلق الصخرة وجاهدت قليلاً حتى وقعت . وبدا أنها تعيد تقييم الموقف ثم دارت حول الصخرة .
     وفي النهاية ، جربت معها عائقاً أخيراً . فقمت بوضع عصا أمامها ، فجاهدت هذه النملة للتغلب على هذه المشكلة أيضاً حتى وجدت طريقها لتخطي هذه العقبة عن طريق تغيير اتجاهها والبحث عن طريق بديل .
     لقد اجتازت هذه النملة بعض الاختبارات الصعبة ، لكنها خلالها جميعاً استمرت في التقدم . ولم تتوقف في أية لحظة ولو لثانية . وعلى قدر ما أذكر لم تغير ما كانت تقوم به على الإطلاق ، ألا وهو التقدم للأمام . يا لها من قوة دافعة ! واعتقد أيضاً أنها لم تَشْكُ أو تتذمر . على خلاف الشخص الذي تواجهه مشكلة ، فهي لم تلجأ لصديق تشكو له ، ولم تشعر بالإرهاق ولم تأخذ راحة ولم تتوقف لتفكر في المشكلة قبل أن تحاول مرة أخرى كما أنها لم ترجع إلى مستعمرة النمل لتطرح عليها المشكلة وتعود مع لجنة من حكومة النمل لدراسة هذه العقبة .
     لقد أدركت هذه النملة أن هناك شيئاً واحداً عليها القيام به وهو الاستمرار في التقدم للأمام . لقد بدا أنها تعرف أن هذا هو كل ما تحتاجه للوصول في النهاية إلى وجهتها. وأعتقد أنها وصلت إلى وجهتها عندما توقفت عن وضع العراقيل في طريقها .
     أليس من المثير للعجب أن أتعلم هذا الدرس ليس من المرتفعات ولكن من مكان قريب جداً من الأرض عند أطراف قدمي ؟
     ولكنه كان بالنسبة لي عرضاً حياً لرسالة مهمة للغاية، وهي أننا لا يجب أن نتوقف عند كل عقبة تضعها الحياة في طريقنا . نعم ، قد نحتاج إلى التوقف لبرهة ونفكر في الخيارات المتاحة ونضع الخطط).
     ولنتعلم من الطفل كيف يتعلم المشي .. وكيف أنه يقع مراراً وتكراراً لكنه لا يستسلم أبداً ،  قال أحدهم :
(لا يحظى المرء بالنجاح إلا حينما ينتقل من فشل إلى فشل ، ومن خيبة إلى خيبة دون أن يفقد بذلك حماسه الداخلي).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق