الأحد، 4 مارس 2012

النظرة الإيجابية


     يقول تشارلز سويندل : (يعتمد مستوى معيشتنا وسعادتنا في الحياة بنسبة 10% على ما يحدث لنا ، وبنسبة 90% على ردود أفعالنا تجاه ما يحدث لنا) . من أسرار النفس البشرية تأثير الأفكار عليها في المشاعر والسلوك فكثيرون منا قرؤوا أو سمعوا باسم كتاب " دع القلق وابدأ الحياة" للمؤلف " ديل كارنيجي " ، الذي اختار لأحد فصوله عنوان " حياتك من  صنع أفكارك " والذي يقول فيه :( فإذا راودتنا أفكار سعيدة أصبحنا سعداء، وإذا سيطرت علينا أفكار التعاسة غدونا أشقياء وإذا تملكتنا أفكار الخوف أو المرض فغالباً سوف نصبح مرضى أو جبناء نشعر بالذلة ! وإذا فكرنا في الإخفاق أتانا الفشل سريعاً !
وإذ دأبنا نتحدث عن متاعبنا ونندب حظنا ، ونرثي لأنفسنا فسوف يهجرنا الناس ويتجنبون صحبتنا ، فكل واحد عنده ما يكفيه من المتاعب والمشكلات ثم يقول: أعرف رجالاً ونساءً بوسعهم إقصاء القلق والمخاوف والأمراض ، بل
حولوا مجرى حياتهم تحويلاً شاملاً عن طريق  تحويل أفكارهم ).
ويمكن أن نحول الأفكار بـ(الإيحاء الذاتي)  وهو مبدأ قديم عرف بـ  " تاثُير الأفكار في حياة الإنسان " تحدث الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – عن (الإيحاء الذاتي) في كتابـــــه الفوائد" ، وقال : (إن صلاح الأفعال والعادات مبني على صلاح الخواطر والأفكار ، وردُ الأفكار الخاطرة وإبعادها عن الذهن منذ البداية يسر من قطعها بعد أن تصبح عادة مستحكمة) .
     ( إن قوة الإيمان والعقل والحكمة تعين الإنسان على اختيار أحسن تلك الخواطر والأفكار ، وعلى دفع السيئ منها سعادة الإنسان أو شقاوته أو قلقه أو سكينته تنبع من نفسه وحدها ، إنه هو الذي يعطي الحياة لونها البهيج ، أو المقبض ، كما يتلون السائل بلون الإناء الذي يحتويه: ((فمن رضي فله الرضا،ومن سخط فله السخط))( رواه الترمذي).
عاد النبي صلى الله عليه و سلم  أعرابيا ً مريضا ً يتلوى من شدة الحمّى  ، فقال له مواسيا ً مشجعا ً : ((طهور )) فقال الأعرابي : "بل هي حمى تفور ، على شيخ كبير لتورده القبور " ، قال :    (( فهي إذاً ))( رواه البخاري)  .

يعني أن الأمر يخضع للاعتبار الشخصي فإن شئت جعلته تطهيرا ، وإن شئت جعلته هلاكا ً).
     (فمن يدري ؟ رب ضارة نافعة ، وربما صحّت الأجسام بالعلل ، رُبّ محنة في طيِّها مِنْحة . من يدري ؟ ربما كانت هذه المتاعب التي تعانيها باباً إلى خير مجهول ، ولئن أَحْسَنََّا التصرف فيها فنحن حريُّون بالنفاذ منها إلى مستقبل أطيب . {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(سورة البقرة:216).
     إنّ أكثرنا يتبرَّم بالظروف التي تحيط به ، وقد يضاعف ما فيها من نقص وحرمان ونَكَد ، مع أن المتاعب والآلام هي التربة التي تنبت فيها بذور الرجولة .
     وما تفتَّقت مواهب العظماء إلا وسط ركام من المشقات والجهود ).
     (ونحن نستطيع أن نصنع من أنفسنا مُثُلاً رائعة إذا أردنا. وسبيلنا إلى ذلك تجديد أفكارنا ومشاعرنا ، كما تتجدَّدُ الرقعة من الصحراء إذا انضاف إليها مقدار ضخم من المخصِّبات والمياه).
    إن من المهم جداً أن يكون لدى الإنسان نظرة واقعية ونظرة  توازن بين الأشياء، ومن الخطأ أن يسبغ المرء من شعوره السلبي على الأشياء من حوله، وكثيرون يصبغون ما يشاهدونه، أو ما يحيط بهم – وحتى رؤاهم في المنام –بصبغة مشاعرهم؛ فالخائف ينظر إلى الأشياء كلها من منطلق المؤامرة المحكمة.
   لَقَد خِفتُ حَتَّى لَو تَمُرُّ حَمــامَةٌ
       لَقُلتُ: عـــَدُوٌّ أَو طَليعَــةُ مَعشَـــرِ
   فإن قيلَ:خَيرٌ قُلت:هَذي خَديعَةٌ
        وَإِن قيل:َ شَرٌّ قُلتُ: حَقٌّ فَشَمّــِرِ
    إن شأن النظرة الإيجابية عجيب؛ ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله؛ فأبرز صلى الله عليه وسلم جانب الامتناع من هذا الرجل، وأشاد به أكثر من جانب المرأة الواقعة في الفتنة الداعية إلى الإغراء.
     وفي قصة الرجل الذي أراد المرأة حتى اضطرتها ظروف الحياة إلى أن تطاوعه وهي كارهة، ثم ذكّرته بالله، وقالت: اتَّقِ اللَّهَ، وَلاَ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ ؛ فقام عنها وهو أشد ما يكون شوقاً إليها، والله تعالى حمد له هذا واستجاب دعاءه بهذا الموقف، مع أنه خطا عدة خطوات إلى المعصية، وحاولها زمناً طويلاً وواعدها، وابتزّ المرأة أول أمره، واستغل ظروفها المادية الصعبة، ووصل إلى الخلوة، وأن يقعد منها مقعد الرجل من امرأته: بين رجليها، وهذا لفظ يطوي وراءه سلسلة طويلة من المحاولات والخطوات، ومع ذلك كانت النتيجة أن خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، وكان هذا منه أمراً محموداً؛ لأنه أصرّ على تصحيح الخطأ.
ربما يقع من المرء زلة، أو يمشي خطوة في طريق، ولكننا لن نعدم أن نجد في عمله – ما دام مؤمناً مسلماً – أثراً يستحق أن يُشاد به، ويُنظر إليه بإيجابية، ويُطوّر ويُفعِّل؛ لئلا يُحاصر هذا المرء بذنبه، وقد لعن بعض الصحابة – رضي الله عنهم – ذلك الرجل الذي جُلد في الخمر – كما في صحيح البخاري –  فقال النبي صلى الله عليه و سلم ((ألا قلتم رحمك الله بدلاً من قول لعنك الله)).
     إن الإيجابية تجاه أنفسنا، والعدوان الذي يقع علينا من الآخرين؛ فهذا يسبّنا، وهذا يجحد جميلنا ، وهذا يكتب مقالاً يشتمنا في جريدة أو مجلة، وهذا يكتب تعليقاً في الإنترنت على ما نفعل أو نقول؛ فلا نيأس ولا نيأس؛ فالناس لا يركلون الجثث الهامدة، ولا يتعرضون إلا لمن لهم وجود وحضور، ولنتخيل كم في هذا العمل – الذي ربما ساءنا أول الأمر – من الخير؛ ففيه الأجر والثواب لمن صبر وصابر.
     وفيه تعويد النفس على تقبل مثل هذه المعاني، وعدم الانزعاج والانفعال لها؛ فهي دورة تدريبية.
     فعلينا ألاّ نقرأ الوجه القاتم، ولا النص الفارغ. فلنحاول أن نعدل الكفة والميزان.
    وكذلك الواقعية في النظرة إلى الحياة والشمولية والبعد عن نظرة الكمال الخيالية .
     ففي عام (1967م) وضع رجل أوربي يدعى "بيك " نظرية أسماها "النظرية المعرفية " وقال فيها : ( إن هناك بعض الناس يكتئبون لأنهم يفكرون خطأ ، ومن النقاط الخاطئة في طريقة التفكير التي ذكرها " بيك " التوقعات الكبيرة جداً ، النظرة الجزئية للأمور ، وتعميم الخطأ ، والنظرة السلبية إلى الأمور ، فيصبح هذا الإنسان أول ما ينظر إليه في أمرٍ ما هو الجانب السلبي فسيؤدي هذا بالطبع إلى دوام الاكتئاب والحزن في الحياة وبالتالي سيقل تفاؤله ).
     ولنصنع الآن من الليمونة الملِحَة شراباً حُلواً ، ولننظر إلى الأمثلة لتحويل الخسائر إلى مكاسب :
     (سُجن أحمد بن حنبل وجُلد فصار إمام السنة ، وحُبس ابن تيمية فأُخرج من حبسه عالماً جماً، ووضع السرخسي في قعر بئر معطلة فأخرجَ عشرينَ مجلداً في الفقه ، وأُقعدَ ابن الأثير فصنّف جامع الأصول ، والنهاية من أشهر وأنفع كتب غريب الحديث ، ونُفي ابن الجوزي من بغداد ، فجود القراءات السبع ، وأصابت حمى الموت مالك بن الريب فأرسل للعالمين قصيدته الرائعة الذائعة التي تعدل دواوين شعراء الدولة العباسية ، ومات أبناء أبي ذؤيب الهذلي فرثاهم بقصيدة رائعة أنصت لها الدهر ، وذهل منها الجمهور ، وصفّق لها التاريخ .
     إذا داهمتك داهية فانظر في الجانب المشرق منها ، وإذا ناولك أحدهم كوب ليمون فأضف إليه حفنة من سكر ، وإذا أهدى لك ثعباناً فخذ جلده الثمين واترك باقية ، وإذا لدغتك عقرب فاعلم أنه مصل واق ومناعة حصينة ضد سم الحيات .
    تكيف في ظرفك القاسي ، لتخرج لنا منه زهراً وورداً وياسميناً ، {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}(سورة البقرة:216).
     سجنت فرنسا قبل ثورتها العارمة شاعرين مجيدين متفائلاً ومتشائماً فأخرجا رأسيهما من نافذة السجن . فأما المتفائل فنظر نظرة في النجوم فضحك. وأما المتشائم فنظر إلى الطين في الشارع المجاور فبكى .
    انظر إلى الوجه الآخر للمأساة ، لأن الشر المحض ليس موجوداً ؛ بل هناك خيرٌ ومكسب وفتح وأجر) .
    وكذلك انظر لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يصف حالته وهو سجين ، والذي يرسم صورة جميلةً للتفاؤل فيقول : (ماذا يفعل أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري ، أينما رحت فهي معي لا تفارقني ، أنا سجني خلوة ، وقتلي شهادة ، ونفيي عن بلدي سياحة).
     و(عندما فقد عبد الله بن عباس عينيه ، وعرف أنه سيقضي ما بقي من عمره مكفوف البصر ، محبوساً وراء الظلمات عن رؤية الحياة والأحياء ، لم ينطوِ على نفسه ليندب حظَّه العاثر .
     بل قبل القسمة المفروضة ، ثم أخذ يضيف إليها ما يهوِّن المصاب ويبعث على الرضا فقال :

إنْ يأخذِ الله من عينيَّ نورَهمـــــــــا           
                                    ففي لســاني وسمعي منهما نُورُ
قلبي ذكيٌّ ، وعقلي غيرُ ذي دَخَلٍ     
                                    وفي فمي صارم كالسيف مأثورُ
     وقال (بشار بن برد) يردُّ على خصومه الذين ندَّدوا بعماه:
وعيرني الأعداءُ ، والعيبُ فيهمو 
                                   فلـــيس بعــــارٍ أن يقـــــال ضريـرُ
إذا أبصر المرء المــــروءةَ والتُّقـــــــــى    
                                    فإن عمَى العينين ليس يضيرُ
رأيتُ العمى أجراً ، وذُخْراً وعِصْمةً   
                                      وإنـــي إلى تلـــك الثلاثِ فقيرُ
     ولا شك أن تلقي المتاعب والنوازل بهذه الروح المتفاءلة ، وهذه الطاقة على استئناف العيش والتغلب على صعابه، أفضل وأجدى من مشاعر الانكسار والانسحاب التي تجتاح بعض الناس وتقضي عليهم.
     وانظر البَوْن بين كلام (ابن عباس)و(بشار)، وبين ما قاله (صالح بن عبد القدوس) لما عمي :

على الدنيا السلام ، فما لشيخٍ      
                               ضريرِ العين في الدنيا نصيبُ
      يموت المرءُ وهو يُعَــــــــــــــــــــــدُّ حيّاً       
                                     ويُخْلِف ظنَّه الأملُ الـكـــــــــــذوبُ
      يمنيني الطبيبُ شفاء عينــــــــي        
                                     وما غير الإله لها طبيـــــــــــــــــبُ
إذا ما مات بعضُك فابك بعضاً     
                               فإن البعض من بعضٍ قريبُ)
    بعض الدعاة يظلمون أنفسهم بنظرة متشائمة إلى مستقبل الدعوة ، ويتهمون التخطيط والقادة والرعيل، فيعتزلون مجالات العمل الوضاءة وهي من حولهم تنادي وتهيب .
    وإنما الظلام ظلام المتشائم فحسب ، إذ حبس نفسه عن الضياء ، والأضواء تنير درب غيره.
    ولذا ضرب أحدهم مثلاً فافترض للمتشائم أنه في حجرة مقفلة سوداء ، أليس يبقى من حولها ضوء الشمس ؟
حجرة ملؤها الظلام حوتني         
                            حوتـــهـــا أشعــــــــة قمــــــراء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق